الجمعة، 28 مارس 2014

المقامة العمرية لابن ريان، الحسين بن سليمان بن ريان

هذه المقامة العمرية من مقامات الريانية وسماها بان ريان بالمقامة العمرية نسبة إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لأنه كان يذكر شيئا من عدل عمر ـ رضي الله عنه ـ وبعض الأمور الغريبة والعجيبة في هذه المقامة .
يقول ابن ريان : أخبرني من أثق بعقله وأحكم بصحة نقله، قال : أغرب ما نقلته من الأخبار وأعجب ما عقلته عن الأخيار ـ عقلته بمعنى أدركته وفهمته ـ ممن كان كان يحضر مجلس الإمام عمر بن الخطاب، خليفة الإسلام، فيسمع كلامه ويتدبر أحكامه، قال : بينما الإمام قد جلس في بعض الأيام وعنده أكابر الصحابة وأهل الرأي والإصابة، وهو يفصل القضايا ويحكم بين الرعايا، إذ أقبل إليه شاب حسن الشباب نظيف الأثواب قد اكتنفه شابان ـ اكتنفه أي أحاطا به ـ من أحسن الشباب، وقد جذباه وحسباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين ولبباه ـ لبباه يقال لبب فلان جمع ثيابه عند نحره في الخصومة ثم جره ـ فلما وقفوا بين يديه ونظر إليهما وغليه أمرهما بالكف عنه ودنوه منه قالا : نحن يا أمير المؤمنين أخوان شقيقان جديران بإتباع الحق حقيقان، كان لنا أب شيخ كبير ـ  وهذا من قوله تعالى في سورة يوسف : ( إن له أبا شيخا كبيرا ) حسين التدبير، معظم في قبائله ومتنزه عن رذائله ـ الرذائل يراد بها لاأشياء الحقيرة والدنيئة ـ معروف بفضائله، ربانا صغارا وأعزنا كبارا، وأولانا مننا غزارا ـ أولانا بمعنى أعطانا، وغزارا كثيرة ـ قالا : خرج اليوم من حديقة له يتنزه في أشجارها، ويقتطف يانع ثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الصواب، ونسأل الاقتصاص عما جناه، والحكم فيما أراك الله .
قال الراوي : فنظر عمر إلى الشاب وقال : قد سمعت فما الجواب ؟
والغلام مع ذلك ثابت الجأش ـ الجأش أي رابط نفسه عن الفرار ـ خال من الاستيحاش ـ أي أن يكون متوحشا قد دخلته الوحشة ـ قد خلع اللباس الهلع ونزع رداء اجزع، فتبسم عن مثل الجمان ـ أي الدر والؤلؤ ـ وتقدم ثابت الجنان ـ الجنان القلب ـ وتكلم بأفصح لسان، وسلم بكلمات حسان ثم قال : يا أمير المؤمنين، قد وعيا وما ادعيا ـ وعيا أي أدركا ما قالا بمنعى أنهما لم يلفقا كلاما غير صحيح ـ وصدقا فيما نطقا، وخدرا بما جرى، وعبر عما طرا، وسأنجي قضيتي بين يديك والأمر إليك، اعلم أني من غرباء العرب، العرباء نبت بي منازل البادية وضبحت علي أسود السنين ـ ضبحت أي غيرت لوني إلى السواد قليلا ـ قال : فأقلبت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد، فأفضت بي طرائقها ـ طرائق جميع طريق ـ إلى المسير بين حدائقها، ومعي نياق حبيبات إلي عزيزات علي بينها فحل كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، حسن النتاج، يمشي بينها كالملك عليه التاج، فدنت بعض النوق إلى حديقة، فظهرت من الحائط أطراف شجرها فتناولته بمشفرها ـ المشفر من البعير بمنزلة الشفة من الإنسان ـ فطرتها عن تلك الحديقة وسلكت بها عن غير تلك الطريقة، فإذا شيخ قد ظهر وزفر وتسور الحائط وطفر ـ زفر الزفرة أن يملأ الرجل صدره غما ثم يخرجه بعد مدة، وطفر الحائط بمعنى وثبه إلى ما وراءه ـ وفي يده اليمنى حجر، وتهادى كالليث إذا خطر وضرب الفحل بذلك الحجر فقتله، وأصاب مقتله، فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه، وانقلب توقدت في جمرات الغضب ـ توقدت أي اشتعلت ـ فتناولت ذلك الحجر بعينه وضربته به فكان سبب حينه ـ والحين أي الموت ـ ولقي سوء منقلبه والمرء مقتول بما قتل به، بعد أن صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة، فأسرعت من مكاني جهد إمكاني، فلم يكن بأسرع من حضور هذين الشابين فأدركاني وأمسكاني وأحضراني وها أنا كما تراني .
قال عمر رضي الله عنه : قد اعترفت بما اقترفت ـ اقترفت بمعنى ارتكبت ـ ومن يقترف، وتقعر الخلاص ووجب القصاص، ولات حين مناص ـ أي ليس ساعة ملجأ ولا مهرب ـ فقال الشاب : سمعا بما حكم به الإمام ورضا بما اقتضته شريعة الإسلام، لكن لي أخ صغير وكان له أب شيخ كبيرـ وهذا مأخوذ من وقوله تعالى : ( إن له أبا شيخا كبيرا ) ـ خصه قبل وفاته بمال جليل وبذهب كثير، وأحضره بين يدي وسلمه إلي، وأشهد الله علي، وقال : هذا لأخيك عندك فأحفظه جهدك ـ بمعنى قدر طاقتك ـ فاتخذت لذلك المكان مدفنا ووضعته فيه فلا يعلم به إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي ذهب الذهب، وكنت أنت السبب، وطالبك الصغير بحقه يوم يقضي الله بين خلقه، وإن أنظرتني ثلاثة أيام، فإن أنظرتني ثلاثة أيام أقمت من يتولى أمر الغلام، وعدت وافيا بالذمام ـ الذمام أي العهد والكفالة ـ ولي من يضمن لي على هذا الكلام .
فأطرق أمير المؤمنين عمر، ثم نظر إلى من حضر، فقال : من يقدم على ضمانه والعود إلى مكانه ؟ . قال : فنظر الشاب إلى وجوه الناظرين وأشار إلى أبي ذر دون الحاضرين، فقال : هذا يكفلني عندكم ويضمنني، فقال عمر رضي الله عنه : أتضمنه يا أبا ذر على هذا الكلام ؟ قال : نعم، أكفله إلى ثلاثة أيام . فرضي الشاب بضمان أبي ذر وأنظراه إلى ذلك القدر، فلما انقضت مدة الإمهال، وكاد وقتها يزول أو زال، حضر الشابان إلى مجلس الإمام عمر ـ رضي الله عنه ـ والصاحبة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذر قد حضر وانحسر ـ انحسر بمعنى عيي في منطقه ـ قال : أين الغريم يا أبا ذر ؟ كيف رجوع من فر ؟ كيف يرجع أمس الذي مر ؟ لا نبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا . فقال أبو ذر : وحق جلال الملك العلام أن انقضى تمام الأيام وما حضر الغلام، وفيت بالضمان وأسلمت نفسي وبالله المستعان .
قال الإمام عمر : والله إن تأخر الغلام لأمضين بأبي ذر ما تقتضيه شريعة الإسلام ـ لأمضين أي يقال أمضى الأمر أي أقطعه ـ وأنهاه فانهلت عبرات الحاضرين ـ بمعنى سالت ـ وارتفعت زفرات الناظرين، وعظم الضجيج وتزايد النشيج، فعرض أكابر الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الأدعية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول، فبينما الناس يموجون ـ أي يضطربون ـ تلهفا لما مر ويصرخون تأسفا على أبي ذر إذ أقبل الغلام، ووقف بين يدي الإمام، و سلم أتم السلام، ووجهه يتهلهل مشرقا ويتكلل عرقا، وقال : قد سلمت الصغير إلى أخواله، وعرفتهم خفي أحوالهم وأطلعتهم على مكان ماله، ثم اقتحمت هاجرة الحر، ووفيت وفاء الحر، فعجب الناس من صدقه ووفائه، وإقدامه على الموت واجترائه، فقال : من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن رحمه الطالب وعفا، وتحققت أن الموت إذا حضر، لم ينج منه احتراس فاخترت الوفاء كي لا يقال ذهب الوفاء من الناس .
قال أبو ذر : والله يا أمير المؤمنين، لقد ضمنت هذا الغلام ولا أعرفه من أي قوم ولا كنت رأيته قبل ذلك اليوم، ولكنه نظر إلي دون من حضر، ورصدني فقصدني . وقال : هذا يضمنني فلم أستحسن رده فأوجبت المروءة ألا أخيب قصده، إذ ليس بإجابة القصد من باس كي لا يقال ذهب القصد من الناس .

فقال الشابان عند ذلك : يا أ مير المؤمنين : قد وهبنا هذا الغلام دم أبينا وقدمناه ذخيرة بين أيدينا، فيبدل وحشته بإناس ويزيل ما كان يخافه من باس، كي لا يقال ذهب المعروف من الناس، فاستبشر الإمام بالعفو عن الإمام، وشكره على صدقه ووفائه، واستغزر مروءة أبي ذر دون جلسائه، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى ع ليهما أحسن ثنائه وأنشد : من يفعل الخير لا يعدم جوازيه .. لا يذهب العرف بين الله والناس .


جميع الحقوق محفوظة © تَهَاويلي